«تَحَرَّكِي.. هَيَّا.. لَقَدْ نَفَدَ صَبْرِي مِنْكِ».
«هَيَّا اقْفِزِي فَوْقَ الْحَبْلِ وَإِلاَّ ضَرَبْتُكِ بِهذِهِ الْعَصَا...».
«لماذَا تَبْقِينَ فِي مَكَانِكِ كَأَنَّكِ لاَ تَدْرِينَ مَاذا تَفْعَلِينَ؟».
«لا تَنْظُرِي إِليَّ بِعَيْنَيْنِ دَامِعَتَيْنِ تَتَوَسَّلِينَ إِليَّ لِأَرْحَمَكِ»..
«هَيَّا.. لَنْ يَمْنَعَكِ شَيءٌ مِنِّي.. هذا إِنْذَارِي الْأَخِيرُ».
«أَعْلَمُ أَنَّكِ تَفْهَمِينَ كُلَّ مَا أَقُولُ.. هَيَّا.. أَلاَ تَخْشَيْنَ مِنِّي..؟».
«لَنْ أَرْحَمَكِ عَلى الإِطْلاقِ، سَوْفَ أُنَفِّذُ تَهْدِيدِي.. هَيَّا اقْفِزِي فَوْقَ الْحَبْلِ.. افْعَلِي كمَا تَفْعَلُ حَيَوانَاتُ السِّيرْكِ..».
لَمْ تَكُنْ الْقِطَّةُ الْمِسْكِينَةُ قَادِرَةً عَلى تَنْفِيذِ الْأَوامِرِ..
كانَتْ مُسْتَغْرِبَةً مِمَّا يَحْدُثُ.. إِنَّها تَسْمَعُ صِياحاً غَريباً..
الْقِطَّةُ لَيْسَتْ حَيَواناً مُدَرَّباً فِي السِّيرك.. إِنَّهَا قِطَّةٌ عَادِيَّةٌ بَسِيطَةٌ..
«هَيَّا... هَيَّا.. وَاحِدْ.. اثْنَانْ...».
هَزَّتِ الْقِطَّةُ ذَيْلَهَا.. اسْتَعَدَّتْ لِتَقْفِزَ هَارِبَةً.. لكِنَّ عَصَا نُور كانَتْ أَسْرَعَ، ضَرْبةً وَاحِدةً طَارَتِ الْقِطَّةُ حَتَّى صَدَمَتِ الْحَائِطَ وَوَقَعَتْ عَلى الْأَرْضِ... انْكَسَرَتْ رِجْلُهَا.. وَسَالَ الدَّمُ مِنْ فَمِهَا..
نَظَرَتْ نُورٌ إِلى الْقِطَّةِ ثُمَّ خَرَجَتْ مِنَ الْغُرْفَةِ غَيْرَ مُبَالِيَةٍ.
بَعْدَ قَلِيلٍ دَخَلَتْ أُمُّ نُور غُرْفَةَ ابْنَتِهَا، وَجَدَتِ الْقِطَّةَ لاَ تَسْتَطِيعُ الْوُقُوفَ مِنْ الْأَلَمِ، الدِّمَاءُ تُغَطِّي فَمَهَا.. تَمُوءُ وَتَبْكِي تَرْجُو مِنْهَا الْمُسَاعَدَةَ.
حَمَلَتِ الْأُمُّ الْقِطَّةَ الْمِسْكِينَةَ، نَظَّفَتْ وَجْهَهَا مِنَ الدِّمَاءِ، رَبَطَتْ رِجْلَهَا الْمَكْسُورَةَ بِقِطْعَةِ قُمَاشٍ مُنَاسِبَةٍ، قَدَّمَتَ لَهَا الْحَلِيبَ، شَرِبَتْ مِنْهُ حَتَّى ارْتَوَتْ وَهَدَأَتْ، ثُمَّ اسْتَلْقَتْ عَلَى الْأَرْضِ.
نَادَتِ الْأُمُّ ابْنَتَهَا.. لكِنَّهَا لَمْ تَرُدَّ عَلى النِّداءِ.
قَامَتِ الْأُمُّ... نَظَرَتْ مِنَ النَّافِذَةِ، وَجَدَتْ ابْنَتَهَا تَلْهُو فِي الْحَدِيقَةِ.
رَفَعَتِ الْأُمُّ صَوْتَهَا.. قَالَتْ: «نور.. نور.. تَعَالَيْ عَلَى الْفَوْرِ».
جَاءَتْ نُورٌ مُسْرِعَةً.. فَسَأَلَتْهَا الْأُمُّ: «مَاذَا فَعَلْتِ بِالْقِطَّةِ؟!».
لَمْ تَكُنْ نُورٌ تَتَوَقَّعُ اكْتِشَافَ أُمِّهَا السَّرِيعَ لِلْقِطَّةِ الْمِسْكِينَةِ، حَاوَلَتْ أَنْ تُظْهِرَ أَنَّهَا لا تَعْرِفُ شَيئاً عَمَّا حَدَثَ، نَظَرَتْ إِلى الْقِطَّةِ... رَسَمَتْ عَلى وَجْهِهَا عَلامَاتِ الاسْتِغْرَابِ... قَالَتْ: «يا مِسْكِينَة.. مَا الّذِي حَدَثَ.. لَقَدْ تَرَكْتُهَا سَلِيمَةً..».
قَالَتِ الْأُمُّ: «أَلَمْ تَفْعَلِي لَهَا شَيْئاً يا نُور؟..».
أَجَابَتْ نُورٌ بِتَرَدُّدٍ: «لا.. لا يُمْكِنُ أَنْ أُؤْذِيهَا.. رُبَّمَا سَقَطَتْ مِنْ مَكانٍ مُرْتَفَعٍ..».
تَأَلَّمَتِ الْأُمُّ مِنْ مَوْقِفِ ابْنَتِهَا.. فَهِيَ لَمْ تُؤْذِ حَيَواناً ضَعِيفاً فَقَطْ، لكِنَّها أَيْضاً أَخْفَتِ الْحَقِيقَةَ لِتُخْفِيَ سُوءَ مَا فَعَلَتْ؛ فَقَدْ خَافَتْ مِنْ عِقَابِ أُمِّهَا وَنَسِيَتْ أَنَّ اللَّهَ يَراهَا.
نَظَرَتِ الْأُمُّ إلى ابْنَتِهَا بِعِتَابٍ شَدِيدٍ وَقَالَتْ: «لَقَدْ رَأَيْتُ الْعَصَا الذي ضَرَبْتِ بِهِ الْقِطَّةَ عَلَى الْأَرْضِ.. وَشَاهَدْتُ الْحَبْلَ، إِنَّهَا قِطَّةٌ مِسْكِينَةٌ، حَرَامٌ عَلَيْكِ.. لَقَدْ كِدْتِ تَقْتِلِينَهَا..».
لَم تَتَكَلَّمْ نُور.. عَلِمَتْ أَنَّهَا لاَ تَسْتَطِيعُ مُوَاصَلَةِ إِخْفَاءِ الْحَقِيقَةِ.
شَعُرَتِ الْأُمُّ بِحُزْنٍ شَدِيدٍ، قَالَتْ: «هَلْ أَعْجَبَكِ مَا رَأَيْتِ مِنْ دَمِ الْقِطَّةِ الْمِسْكِينَةِ، هَلْ فَرِحْتِ لِأَنَّكِ كَسَرْتِ لَهَا رِجْلَهَا، أَنَا لاَ أَفْهَمُ لِمَاذَا فَعَلْتِ هذا مَعَهَا..».
قَالَتْ: «لَمْ تَسْمَعْ كَلاَمِي وَتُنَفِّذْ مَا أُرِيدُ..».
الْأُمُّ: «لَكِنَّكِ تَطْلُبِينَ مِنْهَا شَيْئاً لاَ تَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ بِهِ..».
وَأَضَافَتْ: «هَلْ تَقْبَلِينَ أَنْ أَفْعَلَ مَعَكِ مِثْلَمَا فَعَلَتِ مَعَها..».
قَالَتْ:» «لاَ يَا أُمِّي.. أَرْجُوكِ..».
قَالَتِ الْأُمُّ: «هَيَّا.. إِذَن اقْفِزِي مِنَ النَّافِذَةِ إِلى الْحَدِيقَةِ.. سَوْفَ أُرْغِمُكِ عَلَى الْقَفْزِ.. وَإِلاَّ سَأَضْرِبُكِ بِالْعَصَا نَفْسِهَا.. هَيَّا.. بِسُرْعَةٍ.. لَقَدْ نَفَدَ صَبْرِي»..
بَكَتْ نُورٌ خَائِفَةً ظَنَّتْ أَنَّ الْأُمَّ سَتُنَفِّذُ تَهْدِيدَهَا.
قَالَتِ الْأُمُّ: «سَوْفَ أَضْرِبُكِ وَأَقُولُ لِأَبِيكِ إِنَّكَ وَقَعْتِ وَكَسَرت رِجْلَكِ وَحْدَك»..
رَاحَتْ نُورٌ تَبْكِي..
قَالَتِ الْأُمُّ: «لكِن لِلأَسَفِ، سَتُخْبِرينَ أَباكِ بِالْحَقيقَةِ.. فَأَنْتِ تَسْتَطِيعِينَ الْكَلامَ»..
سَكَتَتِ الْأُمُّ قَلِيلاً ثُمَّ قَالَتْ: «لكنْ مَنْ سَيُدَافِعُ عَنْ هذِهِ الْقِطَّةِ الْمِسْكِينَةِ وَهِيَ لاَ تَسْتَطِيعُ الْكَلامَ؟».
أَضَافَتِ الْأُمُّ: «كَمْ أَتَمَنَّى أَنْ تَتَكَلَّمَ هذِهِ الْقِطَّةَ الْجَرِيحَةَ لِتُخْبِرَنَا عَنْ قَسْوَتِكِ فَتَكْشِفَ الْحَقِيقَةَ».
حَزِنَتْ نورٌ كَثِيراً، شَعُرتْ بِخَطَئِهَا.. فَاعْتَذَرَتْ مِنْ أُمِّهَا..
قَالَتِ الْأُمُّ: «لكِنَّكِ أَسَأْتِ إِلى الْقِطَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَسَأْتِ إليَّ.. إِذا عَفَوْتُ أَنَا عَنْكِ هَل سَتُسَامِحُكِ الْقِطَّةُ؟».
اقْتَرَبَتْ نُورٌ مِنَ الْقِطَّةِ تُرِيدُ أَنْ تَحْتَضِنَهَا وَتُقَبِّلُهَا، لكِنَّ الْقِطَّةَ مَا إِن شَاهَدَتْهَا تَقْتَرِبُ مِنْهَا حَتَّى قَامَتْ مُسْرِعَةً تَرْكُضُ بِرِجْلِهَا الْمَكْسُورَةِ.. وَهَرَبَتْ مِنَ الْمَنْزِلِ وَهِيَ تَبْكِي.. وَلكِنْ بِغَيْرِ دُمُوعٍ.
لَمْ تَسْتَطِعِ الْقِطَّةُ الْهَرَبَ.. كَانَتْ رِجْلُهَا تُوجِعُهَا كُلَّمَا رَكَضَتْ، جَلَسَتْ فِي حَدِيقَةِ الْمَنْزِلِ لِتَرْتَاحَ.. لَحِقَتْهَا الْأُمُّ.. حَمَلَتْهَا بِرِفْقٍ لِتُهَدِّىءَ مِنْ خَوْفِهَا.. اقْتَرِبَتْ نُورٌ.. قَبَّلَتِ الْقِطَّةَ عَلَى رَأْسِهَا.. شَعُرَتِ الْقِطَّةُ بِالْأَمَانِ... اطْمَأَنَّتْ... وَعَادَتْ تَلْهُو مِنْ جَدِيدٍ.